الثلاثاء، 25 يوليو 2017

يا مسؤولين: قبل أن يتحول النفٓسُ هواءً!

  


   يا مسؤولين: قبل أن يتحول النفٓسُ هواءً!

بعد عشر سنوات من التعلم والتدريب ليصبح واحدًا من أنجح جراحي المخ والأعصاب في الولايات المتحدة، تم تشخيص الدكتور پول كالينيتي بسرطان رئةٍ من أشرس الأنواع والذي لا يقبل الجراحة.



كان الدكتور پول طبيبا مجتهدا، ويؤدي واجباته حسب قسمه الطبي، ولكن مع الوقت نمى جدارٌ فاصل بينه وبين المرضى. 


تيبَّست عاطفته حيالهم، وصار دأبه أداء واجباته العلاجية لكل مريض تماما حسب ما تمليه الكتب، ولكن لا يقدم أي شيء فوق ذلك من التعاطف معهم، وإعطاء الوقت أكثر لينصت لمشاكلهم وأناتهم وأوجاعهم، فبالنسبة اليه يؤدى واجبه.. وبس خلصنا!


طبعا بالنسبة لي أحيي الطبيب الذي يؤدي واجبه مهنيا كاملًا، حتى وإن كان لا يقدم للمرضى شعورا بالقرب أو الصداقة.



على أن الدكتور پول بعد أن كان طبيبا متباهيًا صار في اليوم التالي، مريضا منكسرًا، وخائفا، خصوصا وأن خبر إصابته بالمرض تزامن مع مكالمة من زوجته التي بشرته بأنها حامل!


وضع الدكتور پول كتابا عظيم التأثير، قرأته أكثر من مرة، وبذات المشاعر العميقة وإدراره للدمع.


 ندم د پول على تصرفه على كل مريض عالجه، وكتب عن كل منهم وحالاتهم، وكيف أنه لم يذهب أبعد ويتعاطف معهم، وكيف أنه الآن يجرب بوجع مشاعر أولئك المرضى.. 


ووصى أن يقرأ كل طبيب مشاعره التي سطرها بكتابه "عندما يتحول النفٓسُ هواءً When Breath Becomes Air" سواءً أكانوا طلبة امتيازٍ أو مقيمين أو أخصائيين واستشاريين.



وكنت قد قرأت عن مواطن يرفع شكواه ضد أحد فروع الشؤون البلدية والقروية بمدينته وكيف أنه سيمضي على معاملته قرابة السنتين بدون أن يتلقى أي خبر يفيد عنها شيئا. 


وعرفت الآن أن سبب تيبس عاطفة بعض المسؤولين لأنهم لا يحاولون أن يضعوا نفسهم مكان المواطن الذي ينسحق من أجل خطّٓة قلم مسؤول.


لم يكمل د پول كالينيتي كتابه، فقد وافته المنية وهو شاب بأواخر الثلاثينيات.

نجيب عبدالرحمن الزامل


الأربعاء، 5 يوليو 2017

لأننا بشر


لأننا بشر 

                 شلالات تتابع الوجع

هناك الآن صناعات مزدهرة جدا تملأ محافظ شركات الأدوية والصيدلة وهي تلك العقاقير التي تعالج معالجات الألم.. يسميها الأطباء Opioid Crisis ولي أن أترجمها تصرفاً مصيبة إدمان المسكنات.


ما هي هذه الصناعة تحديدا؟


لما يصف الأطباءُ المسكنات التي ذاعت وشاعت، وببعض البلدان يشتريها الزبائن مباشرة من رفوف الصيدليات، مثل المسكنين المعروفين باسم أوكسي-كونتين، والدروكدون، باعتيادٍ متكرر فإن هذا يورث أعراضًا جانبية بعضها صعب كالدوخة والإمساك المزمن واختلال الإنزيمات وفقد المعادن والفيتامينات وربما احتباس السوائل بالجسم، وهذه الآثار الجانبية لها أيضا أدوية تعالجها، وأيضا هذه الأدوية لها آثار جانبية تعالج بأدوية أخرى. 


وهكذا في ترادف وتتابع لا ينتهي اصطلحوا على تسميته بالمجرى المتتابع Cascade

وهذه صناعة كبيرة وعريضة ببلايين الدولارات، تجعل شركات الأدوية هائلة الثراء، وتخرق جيوب الأغنياء والفقراء.



ومثله في السياسة بين الدول، تُخلق مشكلةٌ من أطراف مستفيدة، ثم تقوم تلك الأطراف بمحاولة تسكين الأزمات بمعارك وحروب صغيرة، وتلك المعارك والحروب تورث مشاكل كالأمراض والهدم الحضاري ثم تأتي ذات الأطراف بحلول تنهب بها الأموال، وتعقد مشاكل الدول في دوامة دموية وتراجعية ثم تغرق في دوامات أعمق..



وتعرفون من الضاحك السعيد، إنه جابي الأموال، حتى لو كان أيضا جابي الأرواح.


لا يهم!


استمرار الحياة كفيل بإطفاء نيران الأحزان.


استمرار الحياة كفيل بإطفاء نيران الأحزان.

إبراهيم الحلبي أديب سوري شاب يراسلني فصار صديقا. 


وصلت رسالة منه تقطر حروفها سوادا، واختفت المعاني الوسيمة التي كانت تتأنق على سطوره. ولاحظت أن براعته الأسلوبية التي يشتهر بها أدباء الشام غاضت كما يغيض الوردُ في حقل جف وخنقته الرمال. 



إبراهيم كتب لي هذه المرة واصفا رحلته مع عائلته وقد تزوج وصار لديه ابنتان صغيرتان من الحدود التركية إلى مقدونيا حيث أقام لفترة، ثم استقر الآن حسب وصفه:


 "ببلد الثلج والبرود والانتفاء من الوجود الدافئ السويد، بمخيم في ضاحية تبعد عن استكهولم بـ 50 ميلا"..


 المهم أن إبراهيم سأل سؤالا وكأنه يقرظ ضميره بأسنانه: "عندما وصلنا الحدود النمساوية استُقبلنا بشرا أحياء بعد أن كنا أكفانا تسير على الأرض تنتظر مشعاب الموت لينغرز في لحم صغيرتي وزوجتي ولحمي، وظهرنا للحياة وتعرفنا على أننا جنس بشري، فاحتفلنا بفرح معجون بشهقة الحياة التي تصل للغريق في آخر لحظة.. فهل يحق لنا الفرح وأنا أعرف أن باقي السوريين مثلي ما زالوا تحت أبواب جهنم التي تنفتح من سماء السعير، ومن إخوتي الذين يأكل لحمهم سمك قيعان البحر المتوسط؟" 




كنت أفكر في سؤال الأخ إبراهيم الحلبي ومر بخاطري الطفل سوري الذي أنقذ من تحت الركام بنظارته وقد امتلأت بغبار الركام، وبطفل آخر يعرفه يضمه فرحا، ثم يضع يديه فوق رأسه ويصرخ ويدور فرحا ومضطربا ومذهولا بنجاة حبيبه. 


مع كل خوفي ورحمتي لذلك الطفل الذي أنقذت حياته، إلا أن عواطفي أيضا ذهبت للطفل الآخر الذي صار يدور كالدوامة المترنحة يخبط يديه على خديه ورأسه فرحا لأمل كان قد مات وفجأة رآه حيا ماثلا أمامه. 



نعم يا إبراهيم، نفرح وسط الآلام عندما يكون وميض الفرح لائحا.. لتستمر الحياة، وحين تستمر الحياة يوما ما يا إبراهيم قد يكون قريبا أو بعيدا ولكنه لا بد آت.



واستمرار الحياة سيكون كفيلا بإطفاء نيران الأحزان.