رواقُ فوزية..
رواقُ فوزية..
لم تكن زيارتنا لتونس أخواي جمال ومحمد وأنا طويلة، فلم تتعدى ثمانية وأربعين ساعة، ولكنها بالزمن العاطفي تحسب بما يبدأ ثم يبقى معك، حتى يكتب الله لك أمرًا مقضيا.
وما أصدق أينشتاين بنسبية الزمن، وكأن العواطف والرياضيات يجرون بمضمار كوني واحد.
بدأ الموضوع من الصديق الدكتور صالح السحيباني أمين عام المنظمة العربية للهلال والصليب الأحمر، ويده اليمنى السيدة هوازن الزهراني، الذين دُعِيا لجامعة الزيتونة في تونس العاصمة، ولفتهما عراقة معهد الحضارة الإسلامية التابع للجامعة. ولاحظا تآكل وتداعي مكتبتها التي هي عقل المعهد منذ تم تشييده. وحز بهما أن تكون مكتبة تابعة لجامعة من أعرق جامعات العالم الإسلامي بهذه الحال.
ولن أنسى لهما جميل الظن بأن مشروع تجديد وتأهيل المكتبة ربما يهمني لكوني مهتما بالتراث الإسلامي في الأندلس وشمال أفريقيا، وعرضا الأمر علي، إلا أن أكثرنا حماسة كان أخي الأصغر محمد.
ولمحمد بالذات حكاية تروى مع المعهد ومدير المعهد وأساتذته وتلاميذه، فقد سبق أن ذهب محمد قبلنا بأسابيع للإعداد للمشروع والإطلاع على ما تحتاجه المكتبة لتخرج حسناء رافلة بالثياب القشيبة من المظهر والكتب. وتمّ كل شيءٍ بسلاسةٍ غريبة، فلم تصادفنا عائقة واحدة رغم كل ما يقال عن البيروقراطية العربية والتجمد الأكاديمي، وما توقعناه خطأ أنهم قد يأنفون أن يقوم بهذا العمل متطوعون من خارج تونس.. على أن كل شيء جرى كنسيمٍ بحريٍّ لطيف في أول الربيع.
لما وصلنا تونس، تفاجأنا ببساطة البناء بكل شيء، فعينَيّ ارتاحتا قبل قلبي، فلا ناطحات سحاب تسد الأفق، كلها بنايات صغيرة بيضاء تعانق الأرض، ثم أن تونس فيها نظافة لافتة، فقد دخلنا ازقة فقيرة، نعم فقيرة.. ولكن في غاية النظافة. وقطعًا شعبٌ نظيف هو شعب راقٍ.
وبمكتب الدكتور المعروف عبداللطيف أبو راس رئيس المعهد الذي يدرس به طلاب من ثمانية عشرة بلدا، كان معنا متطوعون من قطر يتقدمهم معالي الدكتور الفخم فعلا محمد المعاضيد.. إلا أن البوعزيزي كاد أن ينسى روح المجاملة وغرق بوصف حبه وإعجابه وتعلقه بمحمد حتى توقعناه أنه لن بنتهي إلا بعد ايام.. وفيه نفسه شيء من محمد. فشعرت بالغيرة وقلت ضاحكا للحضور: "هيا نحتج وننصرف". على أن أحدًا منهم لم يتزحزح.
بوقت المحاضرات، بقاعة جميلة حنونة ملمومة بسيطة تراكب فيها الطلبة والأساتذة كتفا فوق كتف، تكلم أولًا السيد الدكتور المعاضيد وأفصح عن قليل بما في دماغه المعرفي الثقيل، ثم تلاه الدكتور السحيباني الضليع لغةً وخطابةً وقفزت عيناي من مغارتيهما وأنا أراه يكتب قصيدة من رأسه مباشرة على الورق، ثم قرأها فالتهبت الأيادي بالتصفيق.
ولما جاء دوري قلتُ للجمع:"من يُحشَر بين عبقريين يضيع". فما وجدت لنفسي مخرجاً إلا أن أحاضر عن الحب. حبُّ الله أولًا، ثم حبنا لجامعة الزيتونة ومعهدها، وحبنا لحضارتنا العربية، وحبنا الإنساني الذي جمعنا تحت سقف القاعة التي تحولت قلبا واحدا ينبض حبا، وحب معالي مدير المعهد وأساتذته وطلابه لمحمد الذي لا يكاد يسير من التمامهم حوله.
ولم ينس أخي جمال أن ينوه – بما أنه مدبِّر المال- بأن يذكر بأنه حرص على توسيع المشروع بآلات متناظمة من الحواسيب، وأردف: "سنحافظ على المعهد"..ثم ضحك: "حتى لو تخلى عنه نجيب!"
وجاء وقت الدموع لما بدأ أقدم خريجي جامعة الزيتونة الأحياء، المفكر الإسلامي "شريف محمد قلنزة" بإلقاء خطاب بديع الفصاحة بالعربية، ثم دعا لزوجتي طويلا.
نعم فقد تم اختيار اسم زوجتي التي علموا بقلقي عليها لتسمَّى المكتبة "رواق فوزية".
ولما أزيح الستارُ عن اللوحة التذكارية وشاهدت اسم زوجتي رفع الله عنها، غُمَّ علي.. ولم أعد أرى من الدموع.
نجيب عبدالرحمن الزامل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق